ترى روسيا أنّ أوكرانيا تقوم مع حلف الناتو بالتوغّل داخل مجالها الحيوي في البحر الأسود، وأنّ هذا التوغّل أيضا يشكّل خطراً على نفوذها في شبه جزيرة القرم على وجه الخصوص.
يشكّل البحر الأسود منطقة استراتيجية هامّة وحساسة، تتداخل فيها المصالح الجيوسياسية لعدد كبير من الدول المطلة عليه، مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا (الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي)، إضافة إلى أوكرانيا وجورجيا اللتين تجريان مفاوضات للانضمام إلى “الناتو”.
والبحر الأسود، يعتبر الطريق البحري الرئيسي الذي يربط أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى والقوقاز بالبحر الأبيض المتوسط، كما يعتبر مدخل روسيا الوحيد إلى المتوسط، ما يجعله يحظى باهتمام كبير من قبلها. وتشهد هذه المنطقة توترات وتطوّرات مستجدة مؤخراً، بعد إعلان أوكرانيا عن إقامة مناورات عسكرية Defender Europe” 2021″ بمشاركة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودول الاتحاد الأوروبي في البحر الأسود.
وتأتي هذه المناورات في وقت تتهم فيه أوكرانيا، روسيا، بحشد آلاف الجنود على الحدود بين البلدين وفي شبه جزيرة القرم التي استعادت موسكو السيطرة عليها في 2014، والواقعة في البحر الأسود. وفي خطوة تريد فيها الولايات المتحدة تأكيد دعمها “لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها في مواجهة العدوان الروسي في دونباس وشبه جزيرة القرم” وفق قولها، أعلنت أنها ستقوم بإرسال سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور، قبل أن تلغي هذا الأمر في وقت لاحق.
الأمر الذي استفزّ روسيا بطبيعة الحال، لتعلن عن خروج تشكيلة كبيرة من السفن الحربيّة إلى عرض البحر الأسود، بمشاركة مروحيّات حربيّة وأنظمة دفاع جويّ لإجراء مناورات عسكريّة. كما قامت بإرسال قائد الدائرة العسكرية الجنوبية الفريق ألكسندر دفورنيكوف إلى القرم لتفقد الجاهزية القتالية للقطاعات العسكرية في شبه الجزيرة.
فروسيا الآن ترى أنّ أوكرانيا تقوم مع حلف “الناتو” بالتوغّل داخل مجالها الحيوي في البحر الأسود، وأنّ هذا التوغّل يشكّل خطراً على نفوذها في شبه جزيرة القرم على وجه الخصوص؛ المنطقة التي خلقت أزمة بين موسكو وكييف منذ عام 2014.
خلفيّة الصّراع الرّوسي-الأوكراني حول القرم
الأزمة الروسية الأوكرانية بدأت في 21 شباط/فبراير 2014، يوم أُطيح الرئيس الأوكراني، الحليف لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بعد موجة احتجاجات شهدتها العاصمة كييف عرفت بحركة “الميدان الأوروبي”، بسبب تعليق الأخير التوقيع على اتفاقية شراكة تجارية مع الاتحاد الأوروبي.
إلا أنّ هناك من رفض هذه التحركات ووصفها بـ”الانقلاب”، وبدأت احتجاجات في المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، طلباً لعلاقات أوثق مع روسيا، فيما تعددت التظاهرات في شبه جزيرة القرم من أجل فكّ الارتباط مع أوكرانيا والالتحاق بالاتحاد الروسي.
روسيا لم تغضّ الطرف عن طلب مواطني القرم، بل سارعت لتنفيذه، لتعلن انضمام الإقليم إلى أراضيها في 18 آذار/مارس بعد أن قامت قوات موالية لها بالسيطرة على شبه الجزيرة، وعقب استفتاء أجرته القرم، أيّد 96% من المشاركين فيه هذا الانضمام.
وعلى إثر هذا القرار الذي لاقى رفضاً دولياً، تمّ فرض عقوبات اقتصادية على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، كما كندا التي فرضت عقوبات جديدة بالتنسيق مع أستراليا في 30 آذار/مارس الماضي على مسؤولَيْن روس إثنين و4 شركات روسية، على خلفية الأحداث في القرم.
الأهميّة الاستراتيجيّة لشبه جزيرة القرم
تكتسب شبه جزيرة القرم (مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع) أهميتها الاستراتيجية من خلال تموضعها في البحر الأسود قبالة مضيق البوسفور الذي يربط البحر الأسود عبر بحر مرمرة ومضيق الدردنيل بالبحر الأبيض المتوسط، وإطلاله على القوقاز، بما في ذلك شمال القوقاز الروسي.
بالإضافة إلى ذلك تمتلك “القرم” مضيق كيرتش، الطّريق البحري الوحيد بين البحر الأسود وبحر آزوف الّذي يطلّ على الشواطئ الأوكرانية من شماله، وعلى روسيا من جهة الشرق وشبه جزيرة القرم من الغرب، والّذي يعتبر محوراً استراتيجياً ذا أهمية قصوى لكل من روسيا وأوكرانيا أيضاً.
وكانت روسيا افتتحت سنة 2018 جسراً عبر المضيق، يربط شبه جزيرة القرم بروسيا، فيما يعدّ مضيق كيرتش نقطة الدّخول الوحيدة إلى بحر آزوف. إضافة إلى احتضان شبه جزيرة القرم قاعدة كبيرة لأسطول البحر الأسود الروسي، والّذي تشكّل شروط بقائه في المنطقة موضوعاً حسّاساً في العلاقات بين موسكو وكييف، بعد منح القرم إلى أوكرانيا السّوفييتيّة بموجب قرار إداريّ اتّخذ عام 1954 بمبادرة من نيكيتا خروشوف، ومنذ تفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991 وتقاسم أسطوله في البحر الأسود بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا.
لذا يمكن القول إنّه باستعادة روسيا للقرم، تكون قد حافظت وحمت بقاء أسطولها في البحر الأسود من أيّ تدخّلات خارجيّة، في ظلّ تعاظم العلاقات الأوكرانية مع الاتّحاد الأوروبي كما الولايات المتّحدة الأميركيّة و”الناتو” ضمناً.
المكاسب السّياسية والاقتصاديّة باستعادة روسيا للقرم
أمّا من الناحية السياسية، فإنّ استعادة القرم يأتي بمثابة توسعة نفوذ وسيطرة للاتحاد الرّوسي في منطقتي البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، في وجه النّفوذ الأوروبي والأميركي في أوكرانيا. فأوكرانيا بعد انقلاب عام 2014، كانت ولا زالت، دائمة السّعي للاندماج مع الاتّحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، في ظلّ قلق كبير من الحشد العسكري الروسي قرب الحدود مع أوكرانيا.
إلا أنّ الرسائل الروسية السياسية واضحة لدول الغرب، وهي أنّ الحشد العسكري على الحدود، كما سيطرتها على القرم، تأتي كإجراءات “لضمان أمن حدودها في حال أرسلت دول غربية قوات إلى أوكرانيا”. وفي السّياق ذاته، أكّد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف في وقت سابق أنّ “القرم ستبقى إقليماً روسياً إلى الأبد، وأنّ الغرب بقيادة الولايات المتحدة لن يغير من هذا الأمر شيئاً”.
وفي الشأن الاقتصادي، فإنّ القرم تمنح روسيا القدرة على التنويع في مصادر إمدادات الطاقة والغاز الخاصة بها، لغنى هذه المنطقة بموارد نفط وغاز بحرية كبيرة في البحر الأسود، تقدّر كميّتها بما يتراوح بين 4 و13 تريليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى أنّها غنيّة بالمعادن، والفحم الحجري والنّحاس.
وعلى الرغم من أنّ الأزمة الرّوسية الأوكرانية عام 2015 هزّت العلاقة بين موسكو أوروبا وخصوصاً الشراكة بين الطرفين في مجال الطاقة، وخلقت شكوكاً لدى الدول الأوروبية تجاه روسيا التي تعتمد عليها السّوق الأوروبية في تغطية جزء كبير من احتياجاتها من الغاز، فإنّ صادرات روسيا من الغاز إلى أوروبا وتركيا زادت 8.1%، أي إلى مستوى قياسي مرتفع بلغ 193.9 مليار متر مكعب في 2017.
في الوقت الرّاهن، يحظى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بدعم أوروبي وأميركي، في ظلّ تكثيف أوكرانيا لمساعيها للانضمام إلى حلف النّاتو، الخطوة الّتي تكبح المواجهة العسكرية بين البلدين باعتقاد أوكرانيا، إلّا أنّ روسيا حذّرت من أنّ هذا الأمر سينتهي على نحو سيّء على الرغم من ذلك. لتبقى التّساؤلات حول ما ستؤول إليه الأمور في القرم، وكيف سيكون مصيرها في الأيّام القادمة إن ذهبت أوكرانيا باتجاه الانضمام إلى “النّاتو”.