هاكوب كوشكريان
قد يعتبر الكثير من ما لا شأن لهم في الفلسفة السياسية بأنّ سور الصين العظيم ليس إلا قيمة معمارية وحضارية لها إرتباط وثيق بالحضارة والتاريخ الصيني. إلا أنه في عمق هذه الجدران العملاقة تتجذر فلسفة سياسية قامت على أساسها السياسات الصينية الداخلية والخارجية.
فإن بناء الجدران قبل آلاف السنوات، لم يأتِ فقط كنتيجة لإشباع “رغبة فنية – معمارية” وحسب، بل كان إنعكاساً هندسياً لإستراتيجية سياسية ومنظومة أمنية انتهجها الصينيون عبر القرون، حتى ترسّخت فلسفة “السور العظيم” في الوعي السياسي الصيني وأصبح مصدر “إلهام” السياسة الخارجية الصينية المعاصرة.
تاريخياً، وفي مختلف مراحل “تصادم الحضارات”، لجأت الصين إلى خيار طويل الأمد، قوامه بناء الأسوار والجدران لتطويق الإقليم “الصيني” وحمايته من أي عدوان خارجي قد يعرقل مسار التطور الداخلي ويزعزع التركيبة المجتمعية.
بإختصار بنى الصينيون الأسوار العملاقة إنطلاقاً من رؤية سياسية مفادها أن قيام وتطور الحضارة السياسية يرتكز بشكلٍ أساسي على إستقرار الإقليم الجغرافي، وحمايته من أي غزو أجنبي قد يعرقل هذا المسار.
إنطلاقاً من هذه اللمحة التاريخية، يمكننا مقاربة مقومات الإستراتيجية الصينية وتحليلها إنطلاقاً من الوعي السياسي التاريخي الدفاعي الذي يتمثّل ببناء “الأسوار”.
أولاً: الحياد وعدم الإنحياز
يمكننا تحليل ظاهرة “بناء الأسوار”، من حيث مدلولها الفكري والنفسي، بأنها إنعكاس لحالة فكرية عبرت عن امتناعها الضمني من التدخل وعدم الإهتمام بما يجري خارج إطار “الإقليم الآمن”. من ناحية أخرى، تستر الأسوار ما يجري في الداخل، ساترةً عن العالم الخارجي الشؤون الصينية الداخلية التي بقيت “سريةً للغاية” حتى ولو تسرّب جزءًا منها عبر ثغرات “الأسوار”. كما في الماضي كذلك اليوم، حصرت الصين نفسها، على الأقل نظرياً، ضمن “أسوار سياسية”، قائمة على مبدأ “عدم التدخل” في شؤون أي من الدول. بالمقابل، لم تظهر السلطات الصينية إلا جزءًا من “مقوماتها” الداخلية ما جعل الصين من الدول التي يستحيل توقع أي ردة فعل منها سياسية كانت، عسكرية أو إقتصادية. إضافةً إلى ذلك، وبالرغم من التناقضات الداخلية ضمن التركيبة المجتمعية الصينية، لم تتمكن أي جهة خارجية من خرق “الأسوار” وخلق أي خلل ضمن التركيبة الصينية واللعب على التناقضات لزعزعة الإستقرار الصيني.
من الناحية العسكرية، هناك توجه صيني صريح بعدم الدخول بأي حلف عسكري، إنطلاقاً من عقيدة سياسية مفادها أن توزع الدول ضمن أحلاف يهدد السلم الدولي ويدخل العالم في نفق الحرب الباردة التي تعيق أي عملية تطور أو نمو. من حيث الإمكانيات العسكرية، تتحفظ السلطات الصينية بسرية تامة عن أي معلومة قد تشير إلى مدى جهوزية الجيش الصيني وعن الأسلحة التي تحتفظ بها ضمن ذخيرتها القتالية. في هذا السياق كل المعلومات الواردة ليست إلا تقديرات وتحاليل تسويقية تحمل في طياتها توجهات سياسية غير موضوعية.
ثانياً: التمييز بين الداخل والخارج
منذ الثورة الشيوعية، تبنت الصين نموذج إقتصادي فريد.
في الواقع، ليس بدقيق وصف النموذج الصيني ب-“نظام واحد”، فعملياً النموذج الصيني مبني على نظامين: الأول مخصص للعالم الداخلي، والثاني لتنظيم علاقتها التجارية مع من وراء الأسوار.
إن النظام الإقتصادي الداخلي في الصين هو نظام “إشتراكي”، أما في الخارج فالصين جزء من منظمة التجارة الدولية التي نشأت إنطلاقاً من عقيدة إقتصادية ليبرالية تقوم على فتح الأسواق، والمبادرة الحرة، وإلغاء القيود الجمركية.
بالرغم من الإزدواج العقائدي، نجحت الصين بفصل الحياة الإقتصادية بين الداخل والخارج.
ثالثاً: تقديس مبدأ “وحدة إقليم الدولة“
في حينه، لم يكن الهدف الأساسي من تشييد أسوار عملاقة إلا الحفاظ على وحدة الإقليم الذي يحتضن الحضارة الصينية. ترسخت قدسية “وحدة الإقليم” في الوعي السياسي الصيني وترجمت هذه ال-“قدسية” بالسياسات الصارمة التي انتهجها الصينيون (وما زالوا) في وجه أي محاولة للمس بوحدة الإقليم، أو أي محاولة إنفصالية. فإن السلطات الصينية لا تهتم إلا بالغاية (وحدة الإقليم) التي تبرر كافة الوسائل القمعية التي قد تلجأ إليها لاحتواء أي طموح إنفصالي أو أي مناورة عسكرية – سياسية من شأنها المس بسيادة الدولة.
في هذا السياق، شهدنا في الآونة الأخيرة مدى حساسية موضوع “الإنفصال” بالنسبة للسلطات الصينية التي قمعت الايغور، إزاء مطالبتهم بالإعتراف بخصوصيتهم الثقافية تمهيداً للمطالبة بإستقلال ذاتي.
رابعاً: الحنين الدائم لنظام سياسي “مركزي“
إن حدود سور الصين العظيم في أولى مراحله لم تكن إلا عبارة عن طوق معماري أمني لحماية العائلات الحاكمة التي كانت نواة وحماة السيادة الصينية. من هنا نشأت في الفكر الصيني أهمية وحدة المرجع الذي يتميز عن باقي الفئات الشعبية وهي التي تدير الموارد، بالتالي تكونت ذاكرة صينية جماعية تصون السلطات المركزية التي تؤمن “العيش الكريم” لجميع الصينيين.
خامساً: الشراكة والمنفعة المشتركة
تتمايز الصين عن باقي الدول الكبرى في مقاربتها للسياسة الخارجية التوسعية. لم تدخل الصين (في تاريخها المعاصر) بأي صدام عسكري سياسي مباشر لكسب نفوذ على المسرح الدولي أو لملء “الخواء السياسي” الناتج عن اللامبالاة. يمكننا شرح هذه المقاربة إستناداً على “فلسفة السور العظيم”. فبعدما سيج الصينيون الأسوار، ونجحوا في تحييد أي خطر خارجي، ركز الصينيون جهودهم على تطوير القطاعات الإنتاجية بدلاً من تخصيص مواردهم على الجهود الحربية التي تستنزف مقومات الدولة وتدخلها في معضلة أمنية، تعيق نموها الإقتصادي. إن تطور القطاعات الإنتاجية المتواصل ضمن إقليم آمن خالٍ من أي تهديد “خطير للغاية”، جعل من الصين دولة تتميز بحرفيات وفنون حصرية، مكنتها من لعب دور خاص ومتميز ضمن شبكة التجارة الدولية.
كما في الماضي، كذلك اليوم لم يتغير مضمون النهج الصيني، فالإنفتاح الصيني السياسي نحو العالم إنطلق من الإقتصاد “التشاركي”، المبني على الشراكة والمنفعة المتبادلة، ومبدأ الرضائية التي تتبين من خلال العقود التي عقدتها الصين مع شركائها في مختلف أنحاء العالم.
06/04/2021