العلاقة بين الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، مع برنامج إيران النووي، ارتبطت بشكلٍ وثيق بشكل الحكم في إيران بمعزلٍ عن أهداف البرنامج.. فما هي محطات تلك العلاقة؟ وكيف أثّرت الثورة عليها؟
أخذ برنامج إيران النووي مساراتٍ عدة يمكن تقسيمها إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية، ومرحلة ما بعدها. الاختلافات بين المرحلتين ظهرت في نوايا إيران من هذا البرنامج وأهدافه، وفي التعامل الغربي لاسيما الولايات المتحدة معها، الأمر الذي لا يمكن فصله عن التغيير الجوهري الذي طرأ على السياسيات الإيرانية بعد انتصار الثورة، من بلد حليفٍ للكتلة الغربية التي تمثلها الإدارة الأميركية، إلى بلد خصمٍ لها.
البرنامج النووي الإيراني ما قبل الثورة: إشراف أميركي ودعم غربي
تعود بدايات البرنامج النووي في إيران إلى خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً عام 1957، عندما وقّع شاه إيران آنذاك محمد رضا بهلوي، اتفاقاً في المجال النووي مع الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، تحت رعاية برنامج الأخير الذي عرف باسم “الذرة من أجل السلام”، ليتبع ذلك في عام 1959 توريد الولايات المتحدة لأول منشأة علمية لبحوث التقنية النووية في إيران. وسبق ذلك في عام 1958، نقل الولايات المتحدة “معهد العلوم النووية” الذي يتبع لـ”حلف بغداد” من العراق إلى إيران.
في بداياته تقدّم برنامج إيران النووي بخطواتٍ بطيئة نوعاً ما حتى عام 1967، حين زودت الولايات المتحدة الأميركية، مركز “طهران للأبحاث النووية” بمفاعل أبحاث صغير بقدرة 5 ميغاواط. وفي عام 1973، كشف الشاه بهلوي عن خططه لتركيب 23 ألف ميغاواط من الطاقة النووية في إيران حتى نهاية القرن الماضي، مكلفاً منظمة الطاقة الذرية الإيرانية التي تأسست حينها، بالإشراف على هذه المهمة.
ويرجع تاريخ أول عمل لإيران على تخصيب اليورانيوم إلى السبعينيات عندما حصلت على نظام “التخصيب بالليزر” من الولايات المتحدة وألمانيا. وفي عقد السبعينيات أيضاً أبرمت إيران العديد من العقود المتعلقة بالتكنولوجيا النووية مع موردين أجانب واستثمرت في تعليم وتدريب موظفيها، حيث دفعت إيران عام 1976 مليار دولار مقابل حصة قدرها 10٪ في مصنع “Tricastin” لتخصيب اليورانيوم التابع لشركة “Eurodif” في فرنسا، وحصة 15٪ في منجم “RTZ” لليورانيوم في “روسينج” بناميبيا الأفريقية.
ويذكر في السياق ذاته، أن حكومة دولة ألمانيا الغربية أبرمت عام 1974 اتفاقاً مع حكومة الشاه بضوءٍ أخضر أميركي، يقضي ببناء أول مفاعل نووي إيراني وهي “محطة بوشهر النووية”، وبدأت شركة “اتحاد مصانع الطاقة” المتفرعة عن شركات “زيمنس” الألمانية أولى مراحل البناء في عام 1975، قبل أن تتوقف مع انسحاب ألمانيا من الاتفاقية بعد الثورة في عام 1979، لتعود إيران وتبرم اتفاقية تعاون نووي مع الاتحاد السوفياتي عام 1989، توجّت عام 1992 بتوقيع اتفاقية استكمال الموقع الأول في محطة بوشهر بين طهران موسكو، على أن تقوم الأخيرة عبر شركاتها بإتمام عمليات البناء.
ويبقى توقيع حكومة طهران ما قبل الثورة، عقداً بقيمة 700 مليون دولار لشراء 600 طن مما يسمى بـ “كعكة اليورانيوم الصفراء” من جنوب إفريقيا (في عهد حكومة “الفصل العنصري” الموالية للغرب) عام 1976، نقطة انعطافٍ في البرنامج النووي الذي أداره الشاه، وذلك استناداً إلى أن هذا العنصر من “اليورانيوم المركز” يستخدم لإعداد وقود للمفاعلات النووية، لكن يمكن أيضاً تخصيبه بهدف تصنيع سلاح نووي. الولايات المتحدة لم تقدم أي اعتراضٍ على خطوة الشاه تلك، على الرغم من كون الحصول على “كعكة اليورانيوم الصفراء”، يعد خطوة مرحلية لإنتاج “سادس فلوريد اليورانيوم”، وهو الغاز الذي يمكنه أن يغذي مصنع تخصيب، ووفقاً لتصميم أجهزة الطرد المركزي والدورة الزمنية اللازمة للإنتاج، يصلح اليورانيوم المخصب الناتج للاستخدام في محطة للكهرباء أو “لصنع سلاح نووي”.
مسار البرنامج النووي الإيراني في مرحلة ما قبل الثورة، يشي بأن طموحات الشاه لم تتوقف عند الطاقة النووية للأغراض السلمية، لا سيما وأن مراحل تطوير البرنامج النووي بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، ترافقت مع أحداث سياسية وعسكرية ضخمة في المنطقة كانت إيران توصف فيها آنذاك بـ”شرطي الخليج”، وكان الشاه يسعى من خلالها إلى مكانة أكبر تمكنه من السيطرة السياسية على منطقة الخليج خاصة تحت الرعاية والدعم الغربييَن.
يضاف إلى ذلك أن حكومة الشاه وضعت الأسس العملية بشكلٍ متسارع للوصول إلى “السلاح النووي” من حيث التقنيات، والملاحظ أن فترة السبعينيات التي تعتبر نقطة التحول في البرنامج النووي الإيراني بشكلٍ متصاعد، ترافقت مع دخول الهند وباكستان (جارتا إيران) إلى نادي الدول التي تمتلك تقنيات نووية عسكرية، وهذا يعيدنا إلى تصريحات نقلت عن الشاه بأن “إيران ستتخلى عن القيود الذاتية في الإنتاج النووي حال أقدمت أي دولة على تطوير وإنتاج السلاح النووي”.
ويعتبر الأمر الإداري الذي وقعه الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد، عام 1976، بالسماح لإيران شراء وتشغيل منشأة تتيح فصل “البلوتونيوم” أحد أهم وأبرز العوامل التي تُظهر عدم معارضة أميركية لاتخاذ إيران “مسار” إنتاج القنبلة النووية على أقل تقدير، بالأخص وأن عملية فصل “البلوتونيوم” عن اليورانيوم بالوقود المستنفد، وضمن تقنية محددة، تشكل عملياً، إحدى أعلى مراحل الوصول لتلك القنبلة.
إيران الثورة تتصدى لسلاح الشاه النووي!
كان مهماً تقديم لمحة عن التعامل الغربي مع البرنامج النووي الذي أداره الشاه قبل انتصار الثورة، لإظهار أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة قدمت كل أشكال الدعم اللازم لحكومة الشاه في إيران من أجل التقدم في برنامجه النووي، لا بل إنها غضت الطرف عن خطواتٍ اتبعها الشاه للحصول على السلاح النووي في نهاية المطاف لو استكمل في برنامجه، وشكلت في أحيانٍ عديدة غطاءً لتلك الخطوات، قبل أن تنسحب من جميع الاتفاقيات المتعلقة ببرنامج إيران النووي في مرحلة ما بعد الثورة، فيما لا تزال هناك العديد من المسائل القانونية الشائكة، التي تطالب إيران بتنفيذها حتى الآن من جهة التعويضات والأموال والتقنيات المحجوزة.
وأمام التعاون الذي قدمته دول الغرب لحكومة الشاه، فإن أول من تصدّى لأي برنامجٍ إيراني نووي عسكري، كانت حكومة الثورة في إيران، التي استندت إلى فتوى صريحة من قائدها السيد الخميني، بتحريم إنتاج أو استخدام الأسلحة الكيميائية أو النووية. ويُنقل عن السيد الخميني، أيضاً أنه أمر بحلِّ الأبحاث السرية الخاصة بالأسلحة النووية.
تلك الفتوى عززها السيد خامنئي خلال العقود الماضية، لا سيما فتواه الشهيرة عام 2003 مع بداية المفاوضات التي ذكر فيها أنه “إضافةً إلى السلاح النووي، فإن سائر صنوف أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيمياوية والميكروبية تمثل خطراً حقيقياً على البشرية. والشعب الإيراني باعتباره ضحية لاستخدام السلاح الكيمياوي يشعر أكثر من غيره من الشعوب بخطر إنتاج وتخزين هذه الأنواع من الأسلحة، وهو على استعداد لوضع كافة إمكاناته في سبيل مواجهتها. إننا نعتبر استخدام هذه الأسلحة حراماً، وإنّ السعي لحماية أبناء البشر من هذا البلاء الكبير واجباً على عاتق الجميع”.
وفي خطاب له بعد توقيع الاتفاقية عام 2015 قال السيد خامنئي إنه “لا يمكن لأي قوة الوقوف أمام إيران إذا أرادت صناعة قنبلة ذرية، ولكن إيران لا تريد صناعتها وذلك لتعارضها مع الشرع والإسلام”. وعلى هذا الحال، فإنّ الضوابط التي وضعتها إيران أمام استخدام البرنامج النووي لغايات عسكرية، هي أشد من الضوابط التي طالب بها الغرب لمنع إيران من إنتاج سلاح نووي.
ما بين “التحريم الشرعي” للسلاح النووي في دولةٍ تستمد نظامها من التعاليم الإسلامية، وبين الدعم اللامحدود للشاه في برنامجه النووي الذي أخذ توجهاً غير سلمي، يبقى أن الدول الغربية التي تدعي أن البرنامج النووي الإيراني الحالي يشكل خطراً على “السلام والأمن العالميَين”، وقعت بين محظورَين سياسيين: الأول أنّ امتلاكها هي بحد ذاتها للرؤوس النووية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة يدينها قبل أن يدين أي مسارٍ للبرنامج الإيراني مهما كانت غاياته. أمّا الثاني، فإن عدم مساعدتها لإيران ما بعد الثوة، كما فعلت قبل الثورة، لا بل محاولة وضع العراقيل أمامها في برنامجها النووي السلمي، يضعها في خانة “الانتهازية السياسية” التي لا علاقة لها بأي مخاوف.
الضغوط السياسية والانتهازية
ليس المطلوب من الدول الغربية ومن ضمنها الولايات المتحدة، الاستناد إلى فتوى دينية فقط للاقتناع أن إيران لن تنتهج مساراً عسكرياً في برنامجها النووي، فهذا الأمر يمكن أن يقول أحدهم إنه “يلزم إيران فقط، وغير وارد في العلاقات الدولية أو القانون الدولي”، لكن ما هو أساسي في المنظومة الدولية، عدم افتراض “وقوع الأمر” اعتماداً على موقف سياسي من دولة، عبر تحريكه ضمن ضغوط اقتصادية لإجبارها على تنازلات سياسية داخلية وخارجية.
وحتى اللحظة لم تثبت أي منظمة، لاسيما المنظمة الدولية للطاقة الذرية المعنية بالأمر، أن إيران بصدد تصنيع قنبلة نووية، ولم يستطع أي طرف الحصول على دليل لذلك، رغم وجود قدرة لدى الولايات المتحدة في ادعاء وجود دليل والترويج لهذا الادعاء، كما حصل قبيل غزو العراق ومزاعم وجود أسلحة كيميائية، وهذا بحد ذاته دليل قانوني دامغ على صحّة مواقف المسؤولين الإيرانيين من برنامجهم النووي.
وفيما يخص الاتفاق النووي الموقع عام 2015، فإنه وعلى الرغم من انسحاب الولايات المتحدة منه، لكنه يعبّر بشكلٍ أساسي عن الصمود الإيراني بوجه العراقيل والضغوط الغربية منذ تسعينيات القرن الماضي، واللجوء إليه من قبل الدول الغربية كان حلاً وسطياً بعد استنزاف كافة السبل لإيقاف التقديم الإيراني في المجال النووي السلمي، وإلا لكان تم إبرامه منذ عام 2003 تاريخ بدء المفاوضات.
ومن أبرز تلك السبل التي انتهجتها أميركا هو البرنامج الذي أطلقته وكالة الاستخبارات الأميركية عام 2005 تحت عنوان “تصفية الأدمغة” النوويّة الإيرانيّة، والهادف إلى تشجيع الإيرانيين المشاركين في البرنامج النووي عبر إغراءات معينة على الفرار إلى الغرب. هذا البرنامج ونتيجة فشله، تطور ليتحول إلى “التصفية الجسدية” للأدمغة الإيرانية، من خلال عمليات اغتيال لعلماء إيرانيين، بدأت تقريباً عام 2009 ولا تزال مستمرة.
بات الحديث عن انتهازية الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة في مقاربة أي ملف دولي، أمراً مفروغاً منه، في ظلّ الوضوح الذي تظهره إيران في برنامجها النووي تحديداً، وبالأخص أن نيّة امتلاك السلاح العسكري النووي لم تتوفر منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة، ولو أنها توفرت لكانت إيران ما بعد الثورة وصلت إلى القنبلة النووية في غضون سنين قليلة، اعتماداً على ما تركته إدارة الشاه في هذا الملف.
التعامل الغربي مع برنامج إيران النووي بات واضحاً أنه يخرج من دائرة “عدم الرغبة بانتشار السلاح النووي”، ليوضع في إطار الهيمنة السياسية والاقتصادية والعلمية التي تريد الدول الغربية فرضها على المنطقة، والتي كان الشاه يتحرك ضمن هوامشها فسُمح له بالذهاب بعيداً في البرنامج النووي. وإذا كان هناك من يسأل عن الأسباب التي تمنع الولايات المتحدة ومعها “إسرائيل” من السماح للسعودية بمباشرة برنامجها النووي على شكلٍ واسع حتى الآن رغم كونها حليفتها، فهذا مردّه إلى المخاوف التي أفرزتها تجربة الشاه بعد سقوط حكمه وانتقال البرنامج النووي إلى سلطة معادية.
العلاقة الأميركية مع البرنامج النووي الإيراني منذ بداياته، تعطي انطباعاً أن الضغوط التي تمارس والعقوبات التي تفرض، لا تتعلق بأنشطة إيران النووية السلمية، بل بتموضع إيران السياسي بكل أنشطتها مهما كانت، وبخروجها من العباءة الغربية كبلدٍ مستقل، يبحث لنفسه عن اكتفاء ذاتي علمي، يغنيه عن الابتزاز الغربي في مختلف المجالات، والذي ظهر جلياً في ملف إيران النووي ذاته، ومساره من خمسينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا. ولعلّ الصحافي الاستقصائي غارث بورتر، في كتابه حول البرنامج النووي الإيراني، يوصف نوعاً ما الغايات الغربية من هذا الملف، حيث بدأ عنوان كتابه بالقول “أزمة مصطنعة”!
المصادر:
-موقع منظمة “مبادرة التهديد النووي”: https://www.nti.org/learn/countries/iran/nuclear/
-معهد واشنطن: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/nuclear-iran-a-glossary-of-terms
-معهد واشنطن: https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/is-china-helping-saudi-arabia-to-build-a-nuclear-bomb
Iranian Nuclear Deal: Challenges for Regional and Global-Strategic Management https://www.gprjournal.com/jadmin/Auther/31rvIolA2LALJouq9hkR/cG64DGQE6o.pdf
-كتاب “Manufactured Crisis: The Untold Story of the Iran Nuclear Scare”
-وكالات أنباء إيرانية